بواسطة أ. محمد الفارس,

2022/12/12 ,

الوسوم: تأسيس وقف ,

5 دقائق

-+=

الإحكام في صياغة الوثائق الوقفية، وأثرها على الوقف

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد،،

فإن للإحكام في صياغة العقود أثرًا بالغًا في تحقيق مقاصده، وجلب مصالحه، وسد أبواب النزاع الناشئة عنه، ولذا كانت أطولَ آية في كتاب الله تعالى هي آيةُ الدين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..) وفصّلت الآية وأبانت عن أحكام الكتابة وطرائق التوثيق في الديون والمبايعات، لما في ذلك من الأهمية والتأثير.

وينص الفقهاء -رحمهم الله- على أن الوقف عقدٌ، ويجعلونه من العقود اللازمة، فالوقف داخل في عموم مصطلح “العقد”، والغالب تسمية عقد الوقف المكتوب بــ “وثيقة الوقف”، وهي المقصودة بالحديث هاهنا.

ومما هو مستقر في أذهان عامة الناس أهمية الإحكام في صياغة وثائق وعقود المعاملات التجارية عموما، وهو الجاري في ممارسات كثير منهم؛ فتجد أحدهم يستقصي البحث في نماذج العقود المحكمة، أو يستكتب المختصين ليصيغوا له عقدًا محكمًا سالمًا من الإشكالات والعيوب الشكلية والموضوعية، كل ذلك لقناعته بخطر العقد وأهمية التدقيق في صياغته وإعداده، وهذا صحيح لا غبار عليه، بل هو الذي ينبغي أن يكون عليه المتعاقدون؛ وإنما الإشكال حين يتخلف هذا الحرص والاهتمام إذا ما رام أحدهم إعداد “وثيقة الوقف”، الذي يُعَد في بعض جوانبه أخطر من سائر العقود! ومن ذلك أن الوقف عقد لازمٌ، لا يرد عليه خيار المجلس أو الشرط وغيرها من الخيارات كما يرد على عقود البيع والإجارة ونحوهما، وكذلك فإن الوقف -عادةً- يطول عمره ويمتد لأجيال كثيرة مما يتعذر معه معرفة شرط الواقف وقصده إلا من خلال النصوص المثبتة في الوثيقة.

وربما يكون ضعف عناية بعض الناس بالإحكام في الوثائق الوقفية ناشئًا عن ضعف تصورهم لحقيقة الوقف، وأثره، وأحكامه الشرعية والنظامية؛ ولذا كان لزامًا على من يصوغ الوثائق الوقفية أن يكون مستوعبا لأحكام الوقف شرعا ونظاما، وأن يبيّنها للواقف، ويتثبت من فهمه لها وتصوره عنها، حتى لا يقع الواقف في إشكال أو حرج جرّاء تصوره الناقص لبعض جوانب الوقف.

ولا شك أن في إعداد الوثيقة تحقيقًا للمصالح العظيمة إذ بها يُعرَف الواقف والعين الموقوفة والمصارف والشروط وغير ذلك مما يهم في الوقف، فإذا خلت عن بعضها أو كانت صياغة الوثيقة ركيكة مضطربة- لم تؤدّ الوثيقة دورها المتمثل في البيان والإيضاح وحفظ الوقف وسد أبواب الخلاف. [1]

وإدراك الواقف لما سبق لا يكفي إذا لم يعكس معرفته وقناعته هذه بصياغة وثيقته الوقفية صياغةً محكمةً دالةً على مراده ومقاصده، جامعةً لسمات الوثيقة المحكمة التي سنذكرها في الفقرة الآتية.

سمات الوثيقة المحكمة:

للوثيقة المحكمة عدة سمات لا بد من توافرها، منها ما هو أساسي، ومنها ما هو تكميلي، ومن تلك السمات:

  • الوضوح: فلا بد من الصياغة أن تكون واضحة وصريحة وجازمة، غير مبهمة ولا تشعر بالتردد، وهذا الوضوح يكون من جهة الألفاظ؛ فلا يؤتى بالألفاظ الغريبة والمشكلة، وكذلك من جهة المعنى؛ فتكون العبارات واضحة صريحة يفهمها القارئ دون إيهام ولا إبهام. ومما يهم التنبيه عليه في هذه السمة: أنه في حال لجأ الواقف إلى بعض العبارات أو المصطلحات غير المعروفة والتي هي مظنة الخلاف في فهمها= فعليه أن يُفسّر مراده في نفس الوثيقة.
  • الشمولية: والمقصود بهذه السمة أن تكون الوثيقة شاملة للعناصر الهامة والأساسية، كاشتمال الوثيقة على الواقف وبياناته، والعين الموقوفة وتفاصيلها، والمصارف، ونسبة الاستثمار من الريع، ومكافأة النظار، وآلية عمل النظار واستخلافهم، والشروط التي يشترطها الواقف فيهم، وصلاحياتهم ومهامهم، وغير ذلك. وشمولية الوثيقة أشبه بالخارطة التي تسهل عمل الناظر، وتحدّ من اجتهاده الذي قد يضر بالوقف لاحقا[2].
  • المرونة: ونقصد بها قابلية الوقف للتوسع والتجديد والمواءمة مع المستجدات بما يحقق له الديمومة ويجلب له المصلحة، ولا تكون الوثيقة جامدة بالحد المؤثر سلبًا على عمل الناظر أو المستفيد، ومثال الجمود في الوثيقة: حصر المصارف في شيء معين دون سواه، أو اشتراط عدم إيجاره فوق مدة معيّنة ولو اقتضت الضرورة ذلك[3]، ومن المرونة: إتاحة ضم الأوقاف والوصايا والهبات غير المشروطة من الآخرين إلى الوقف ما لم تكن سببا في تعطيله، وإتاحة حرية التصرف بالأصلح[4].
  • عدم المخالفة للأحكام الشرعية والنظامية: وهذه تعتبر من السمات المهمة والأساسية التي يغفلها بعض الواقفين؛ ومما ينبغي أن يُلاحَظ أن الوقف -من حيث الأصل- قربة وعبادة يرجو بها العبد ثواب الله والدار الآخرة؛ وملاحظة ذلك يوجب مراعاة أحكام الشريعة في إعداد الوثيقة؛ لئلا يكون الوقف سببًا في تحمّل الإثم والوزر، ومن الصور الممنوعة في الوقف أن يقف الرجل على بعض أولاده دون مسوغ معتبر -وهو من صور الجنف[5]-. وبعضهم يراعي أحكام الشريعة في وثيقته لكنه يشترط شروطًا تخالف الأنظمة المرعية، كمن يشترط أن يكون الناظر جهةً اعتباريةً غير مرخصة من الهيئة العامة للأوقاف[6]، وعدم مراعاة ما سبق قد يعود على الوقف بالضرر أو البطلان.
  • مراعاة الألفاظ الشرعية والعرفية: ونقصد بذلك أن تكون الوثيقة مصاغة وفق الألفاظ الشرعية والعرفية، وألا تخرج ألفاظها -قدر الإمكان- من إطلاقها الشرعي، مثال الأول: تسمية ريع الوقف بـ”الغلة”؛ لأنه لفظ فقهاء الشريعة، وعدم العدول عنه إلى لفظ “العائد” مثلا، أو “الربح”. وتنبع أهمية مراعاة الألفاظ العرفية من اعتبار فقهاء الشريعة وإعمال القضاة لها، قال أبو العباس ابن تيميّة -رحمه الله-: “لفظ الواقف… يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلّم بها، سواء وافقت العربية العرباء، أو العربية المولدة، أو العربية الملحونة، أو كانت غير عربية”[7].
  • الانسجام والتوافق، والمراد بهذه السمة أن تكون مضامين الوثيقة من أحكام وشروط وبنود منسجمة متفقة مع بعضها، وذلك بألا تتعارض أو تتناقض، وفي حال اضطر الواقف في الوثيقة إلى إيراد بعض العبارات التي تُشعِر بالتناقض أو التعارض فيوضّح مراده ويبيّنه، ولا يتركها تعويلًا على فهم الناظر. واضطراب الوثيقة لا شك أنه يوقع الناظر والمستفيد في حرج، ويسبّب اضطرابًا وخلافًا في فهم الوثيقة ومراد الواقف فيها.
  • السهولة والتيسير: والمراد بها أن تتّسم الوثيقة بسهولة القراءة والفهم، وألا تكون طويلة ومتشعبة ومستطردة فيما لا طائل وراءه، ومن ذلك تخفيف وتقليل الاشتراطات والقيود والأمثلة، إلا ما تستدعيه الحاجة.
  • السلامة من الأخطاء في اللغة والصياغة: وهذه سمة تكميلية، مراعاتها يُحكِم الوثيقة ويجمّلها، وقد تكون مراعاتها واجبة؛ وذلك إذا ترتّب على بعض العبارات اللغوية والصياغية تغيرٌ في المعنى.

وكلما كانت الوثيقة أحكم وأجمع للسمات السالف ذكرها- كان تحقيقها للمصالح والمنافع أتمّ وأعظم، ونتناول في الفقرة التالية بعض آثار وفوائد الإحكام في إعداد الوثائق الوقفية.

أثر الإحكام في إعداد الوثائق الوقفية:

  • الديمومة والاستمرار: ووجه ذلك أن الوثيقة الواضحة الصياغة، والشاملة في بنودها، والمرنة في شروطها= تسلَم من وقوع الخلاف والنزاع بين النظار أو المستفيدين الذي قد يفضي إلى إماتة الوقف، وتسلَم من التبعات والإشكالات النظامية التي قد تحدّ من ديمومة الوقف، ومحققة للمرونة التي تجعل الوقف متماشيًا مع المستجدات العصرية، والأوقاف المعمَّرة أنموذج مبهر في ذلك؛ حيث استمرت بعض الأوقاف قرونا من الزمان، وكانت من العوامل المؤثرة “أنها تشترك في وجود عناية واضحة بصياغتها، وبالذات في تحديد شروط الواقف ومصارف الوقف وآلية إدارته، كوقف صبيح..”[8].
  • تحقيق مقاصد الواقف: فكلما كانت الوثيقة محكمة الصياغة من حيث الوضوح واليسر والشمولية والمرونة- كان ذلك سببًا في تحقيق مقاصد ومرادات الواقف مهما تطاولت السنون وتغيرت الأحوال وتبدلت.
  • سد أبواب النزاع: ولو لم تتحقق من إحكام الوثيقة إلا هذه الثمرة لكفت؛ فإنه ليس شيء يضر بالوقف ويحد من تناميه وتوسع أثره مثل الخلاف والنزاع، وللوقاية من انفتاح هذا الباب يجب أن تكون الوثيقة جليّةً في عباراتها وألفاظها، مبيّنةً لحقوق النظار والتزاماتهم، كاشفةً عن آلية عملهم واستخلافهم، واضحةً في بيان المصارف ونسب توزيعها.
  • تيسير عمل النظار: وهذا الأثر ظاهر وجلي، إذ أن الوثيقة غير المحكمة في صياغتها سيكون من سمتها الغموض، والإيهام، والاحتمال؛ مما يصعّب عمل الناظر، بخلاف ما لو كانت واضحة في أعيان الوقف ومصارفه وشروطه ونظارته ونحو ذلك فإنها ستكون -كما شبهت مسبقا- كالخارطة التي يسير وفقها الناظر، وتبقى له بعد ذلك مساحات حرة يجتهد فيها بحسب المصلحة والغبطة التي تتحقق للوقف.
  • سلامة الوقف من الإشكالات الشرعية والتبعات النظامية: وهذا الأثر سيتحقق إذا كانت الوثيقة مراعية للأحكام الشرعية والأنظمة المرعية في البلد، وكذلك إذا اتسمت بالسهولة والدقة وواءمت بينهما، والإخلال في تحقيق تلك السمات في الوثيقة يعود بالخلل على ذات الوقف؛ ومن ذلك أن ينصَّ في الوثيقة على شروط قد تُبطِلُ الوقفَ، أو ينصَّ على شروط لا تصح من حيث هي دون أن تُبطلَ الوقفَ، ومثال الشرط الذي لا يصح معه الوقف: أن يقف على مجهول، أو على حيوان[9]، ومثال الشرط الذي لا يصح -من حيث هو-: ما لو اشترط عدم بيع الوقف أو استبداله مطلقًا؛ فهو شرط لا يصح عند فقهاء الشريعة[10]، ومثال الشرط الذي يبطله النظام -مع صحة الوقف-: لو شرط عدم تسجيل الوقف لدى الهيئة العامة للأوقاف[11].

وختامًا؛

فإنه يحسن بالمرء -إذا عزم على الوقف- أن يستعين في ذلك بالمختصين، وأن يستكتبهم في صياغة الوثيقة الوقفية، أو يراجعهم لتحكيمها، قبل أن يشهد عليها أو يوثقها لدى الجهة المختصة، مع عنايته بالتفقه في أحكام الوقف شرعًا ونظامًا؛ فالوقف عبادة جليلة حري بالمرء أن يحسن فيها؛ فإن الله تعالى “يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”[12]، والله أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.


[1] انظر: وثائق الأوقاف المعاصرة، لعمير شميم ص27
[2] للاستزادة انظر: وثائق الأوقاف المعاصر، لعمير شميم ص419.
[3] “ولو شرط الواقف ألا يباع الوقف عند تعطل منافعه= ففاسد، ومثله عدم إيجاره فوق مدة بعينها إذا دعت الضرورة إلى إيجاره زيادة عليها، كخرابه مثلا ولم يوجد ما يعمّر به، أو من يستأجره إلا زيادة عليها”. (إرشاد أولي النهى 1/ 953)
[4] الأوقاف المعمرة، سماتها وعوامل استدامتها – إصدار: استثمار المستقبل ص83.
[5] يمنع هذا النوع من الوقف بعض الفقهاء، وبه قال ابن باز وابن عثيمين -رحمهما الله- (فتاوى نور على الدرب 19/ 360، الشرح الممتع 11/ 48)، للاستزادة: يراجع بحث د. عدنان الزهراني بعنوان (وقف الجنف في الفقه الإسلامي) وهو منشور على الشبكة.
[6] نص على ذلك لائحة تنظيم أعمال مجلس النظارة مادة (13).
[7] مجموع الفتاوى (4/ 257).
[8] الأوقاف المعمرة، سماتها وعوامل استدامتها ص83، وصدر عن مؤسسة ساعي لتطوير الأوقاف (1440-2019) كتاب عن وقف صبيح وتاريخه للدكتور عبدالحليم مازي.
[9] قال في الشرح الكبير (16/ 393): الثالث [من شروط الوقف]: أن يقفه على معين يملك. ولا يصح على مجهول،..ولا على حيوان لا يملك”.
[10] عبارة الحنابلة: “ولو شرط الواقف ألا يباع الوقف عند تعطل منافعه= ففاسد” والمسألة خلافية، انظر للاستزادة: المغني( 6/ 224)
[11] المادة الثامنة من لائحة تنظيم أعمال مجلس النظارة.
[12] رواه البيهقي في الشعب (4929)، وأبو يعلى في مسنده (4326)، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (1113).

خيارات النشر

لتحميل هذا المقال بصيغة PDF أو Word أو طباعتة وذلك بانقر فوق أيقونة أدوات النشر