بسم الله الرحمن الرحيم

الوقف في نموذج العمل الخيري

نموذج العمل المانح:

يبدأ المنح من رجل أعمال محسن ومحب للخير يجتهد في دفع الزكاة للمستحقين وإنفاق المال في مواضع الحاجة، ومع انشغاله بأعماله التجارية، ورغبة منه في المحافظة على حياته الخاصة أولا ثم مأسسة عملية المنح ثانياً لضمان دفع الأموال في مظانها بعيداً عن مخاطر تمويل الإرهاب وللتأكد من أن المنح يتجه للأكثر نفعاً للمستفيد والأعظم أجراً للمانح يؤسس المانح مؤسسةً أهلية يستقطب لها كفاءات متخصصة في مجال المنح الذي يركز عليه المانح (الصحة، التعليم، الدعوة.. الخ). ومع مرور الزمن يتولد لدى المؤسسة حاجة إلى ضمان تدفقات نقدية مستقرة تستطيع من خلالها وضع إطار استراتيجي للمنح، فيؤسس المانح وقفاً أو أوقافاً يخصص ريعها للمؤسسة، وبهذا تضمن المؤسسة استدامة أثرها، ويكون للوقف أو الأوقاف مجالس نظارة مسؤولة عن إدارة الوقف وتعظيم أصوله وزيادة إيراداته، ومع تعاظم الأصول الوقفية وتعدد نشاطها التجاري تتولد الحاجة لدى الوقف إلى تأسيس شركة تجارية تدير استثمارات الوقف.

ولأن الواقف هو الذي أسس المؤسسة الأهلية وأسس الوقف ثم أسس الوقفُ شركته الاستثمارية أصبح هرم العمل المانح في نهاية المطاف بثلاثة أضلاع؛ أعلاها الوقف أساس استدامة المنح وله ذراع استثماري لتعظيم أصوله وزيادة إيراداته، وذراع منح (مؤسسة أهلية، صندوق عائلة..)، ونلاحظ اتساق هذا التكوين؛ فالنشاط الاستثماري تحت مظلة (وزارة التجارة) وبإشراف فريق متخصص في النشاط التجاري للوقف،  ونشاط المنح تحت مظلة (المركز الوطني لتنمية العمل غير الربحي) وبإشراف خبراء المنح في المؤسسة الأهلية، والوقف تحت إشراف (الهيئة العامة للأوقاف) ومجلس نظارته في مركز القيادة يضع سياسات الاستثمار ويراقبها ويضع معايير المنح ويراقبها.

نموذج العمل الخيري:

ينطلق العمل الخيري غالباً من مبادرة مجتمعية يقوم بها مجموعة من المتطوعين بهدف معالجة مشكلات في المجتمع المحيط أو تنمية فئات مجتمعية محددة أو تطوير قطاع أو مجال محدد، ويتولد بعد ذلك حاجة إلى تأسيس جمعية خيرية لتوسيع دائرة المشاركة المجتمعية، إضافة إلى فتح نافذة قانونية مناسبة لاستقبال تبرعات المحسنين المؤمنين بنفس الفكرة والداعمين لها. ثم مع تتابع التبرعات تبدأ الحاجة إلى استثمار الأموال الفائضة عن حاجة الجمعية في وعاء استثماري محدد، وقد تزيد استثمارات الجمعية وتتنوع إلى درجة حاجتها إلى تأسيس كيان استثماري مستقل يأخذ الشكل القانوني المخصص لكيانات الاستثمار (شركة تجارية)، وفي بعض الحالات تتولد حاجة لدى الجمعية الأهلية لتأسيس استثمار اجتماعي (منشأة صحية، أو تعليمية..) وقد تؤسس لتحقيق هذا الغرض (شركة غير ربحية). ومع ازدياد ثقة الناس بالجمعية وتعدد أنشطتها وكثرة مستفيديها يبدأ التفكير بتحقيق الاستدامة المالية للجمعية من خلال تأسيس وقف أو أوقاف والتي غالبا تمول من خلال مشاركات الواقفين من أفراد المجتمع.

هذا التسلسل الطبيعي لسياق العمل الخيري ولد مزيجاً غير متسق في كل حالاته؛ أعلاه جمعية خيرية ويساندها عدد من الكيانات التابعة:

وفي أغلب الممارسات نجد أن مجلس إدارة الجمعية هو المسؤول عن إدارة الأوقاف وإدارة الاستثمارات إضافة إلى الأعباء الملقاة على عاتقه المرتبطة بنشاط الجمعية الذي بدأت منه قصة العمل الخيري، بل في كثير من الأحيان تلحظ أن المداولات والتفكير في النشاط الاستثماري هي التي تستحوذ على عقول وأوقات أعضاء مجالس إدارات الجمعيات الأهلية وقياداتها.

في الجمعيات متناهية الصغر نفهم هذا التداخل بسبب قلة الموارد البشرية والمالية، وكلما كبر حجم الجمعية كلما ظهرت الحاجة إلى مأسسة وتنظيم عملها، ووجب على قياداتها التوقف برهة من الزمن لإعادة ترتيب الأوراق، وتصميم نموذج العمل المناسب لحجم وأنشطة الجمعية.

الأفكار التالية أرجو أن تساعد قيادات الجمعيات الأهلية الراغبة بالتوقف ولقط الأنفاس لمراجعة نموذج عمل (نشاطها الاجتماعي) وربما إعادة تصميمه:

  • العمل الاجتماعي يقوم على أساس مبادرة مجتمعية لحل مشكلة أو تطوير وضع قائم، وغالباً ما تكون الجمعية الأهلية هي أول شكل قانوني يتم تأسيسه لتحقيق هذا الغرض، لكن هذا لايعني أن الجمعية الخيرية أساس العمل الاجتماعي (قرآن، دعوة، مساعدات، أيتام.. الخ) وإنما يجب أن ننظر إليها في إطار محدد وهو أنها كيان تنظيمي يساعد على مأسسة المشاركة المجتمعية وجلب التبرعات لتحقيق مستهدفات مجتمعية؛ وكوننا حالياً نعمل ونفكر تحت مظلة الجمعية وكونها أول كيان قانوني أسسناه فهذا ليس مبرراً كافياً لاعتبارها محور ارتكاز نموذج المبادرة المجتمعية، ولن نستطيع التفكير بحرية كافية لبناء نموذج عمل مثالي ما لم ننعتق من (عقدة الكيان الأول).
  • الوقف هو أفضل خيار شرعي وقانوني لاستقطاب واستدامة الأصول، وعلى مر التاريخ الإسلامي كانت الأوقاف هي الرافد الأهم للتنمية المجتمعية خاصة في المجالات الدينية والخيرية والصحية والتعليمية، والأصل أن ترتبط هذه الأوقاف بالنشاط الذي أسست من أجله الجمعية (لا بالجمعية ذاتها) لأن النشاط باقٍ ما بقيت الحاجة، بخلاف الجمعية التي قد يتم حلها إلزامياً أو اختياريا.
  • عند استعراض التاريخ الإسلامي نلحظ أن الأوقاف كانت توقف على المدارس والمستشفيات والمضافات ودور الأيتام، دون الحاجة إلى تمليك هذه الأصول والاستثمارات لهذه الأنشطة الاجتماعية، لذا كان القائمون على هذه الأنشطة منغمسون في تحقيق أغراضها التي أسست من أجلها، دون الحاجة إلى الدخول في مجال استقطاب الأموال واستثمارها، وهو وضعٌ صحي وتوزيعٌ للأدوار في العمل الاجتماعي.
  • من الممارسات الخاطئة لدى بعض الجمعيات الأهلية أنها تعلن عن تأسيس وقف وتجمع له الأموال، لكنها لا تثبت وقفية الوقف شرعاً ولا نظاماً، وإنما تكتفي بإثبات الأصل محاسبياً كأصل وقفي، وهو تفريط في حق هذه الأموال الوقفية. والواجب على مجلس إدارة الجمعية حماية أموال الواقفين بإثبات الوقف لدى وزارة العدل وتسجيله لدى الهيئة العامة للأوقاف.
  • للوقف شخصية اعتبارية مستقلة وذمة مالية منفصلة عن الجمعية الأهلية، لذا يجب النظر إلى هذا الوقف على أنه مالٌ خرج من ذمة الجمعية (من الجهة الشرعية والقانونية والمحاسبية) ولم يعد أصلاً تابعاً للجمعية، بل هو أصل موقف على الجمعية.
  • منسوبو الجمعية الأهلية لهم الفضل بعد الله بتأسيس الأوقاف على الجمعية واستقطاب الواقفين، ومن الطبيعي أن يتواجدون في موقع السيطرة عليها لحماية أصولها وتنمية إيراداتها لتحقيق أعظم ريع يعود على الجمعية ولضمان استدامة هذه الأوقاف، لكن مع كثرة الأعباء وتوسع نموذج العمل بين (أوقاف واستثمارات ونشاط اجتماعي) يجب أن ينقسم فريق العمل بين هذه المجالات الثلاث بحيث يتخصص كل منهم في المجال الذي يجيده ويبدع فيه ويستمتع في أداءه، وهذا أفضل من تكرار نفس الأشخاص في كل هذه المجالات، كأن نشترط أن مجلس نظارة الوقف هو نفسه مجلس إدارة الجمعية، وهو نفسه مجلس إدارة الشركة الاستثمارية، إضافة إلى أن هذه الممارسة تؤدي إلى ضعف المحاسبة والمسؤولية، فمَن سيحاسب مَن إذا كانت المجالس مكررة؟
  • أوقاف الجمعيات واستثماراتها التي تعمل بشكل مستقل عن مجالس إدارة الجمعيات تتمتع بحرية ومرونة كافية للنمو والتطوير بخلاف أوقاف الجمعيات التي تنص وثائق أوقافها على أن يتولى نظارتها مجالس إدارة الجمعية ذاتها، والتي تعاني من مشكلات بطء اتخاذ القرارات وبيروقراطية العمل، وربما تلجأ بعض الجمعيات إلى هذا الخيار جهلا منها في إمكانية تعيين نظار مستقلين تحت إشرافها، وقد ذكرنا في مقالات أخرى أن من الأفضل للجمعية التي تؤسس وقفاً من فائض مالها أن يكون مجلس إدارة الجمعية في مجلس إشرافي في الوقف يسائل ويعين ويعزل النظار دون الحاجة إلى المشاركة المباشرة في إدارة شؤون الوقف، أما في الأوقاف الموقفة على الجمعية بواسطة الواقفين فمن الأفضل للوقف أن يتمتع باستقلال قراره الإداري بعيداً عن تدخل الجمعية في شؤون الوقف لأنها في هذه الحالة مستفيد من ريع الوقف لا أكثر. وفي كلا الحالتين؛ يجب أن تتمتع أوقاف الجمعيات بقدرة على تحقيق مستهدفاتها المتمثلة في تعظيم الأصل وتنمية الإيراد واستقرار التدفقات النقدية، ولا يكون ذلك إلا إذا أديرت بشكل مستقل عن الجمعية وعززنا حوكمتها تحت إشراف الهيئة العامة للأوقاف.
  • تتولد الحاجة إلى تأسيس ذراع استثماري تحت إشراف وزارة التجارة عند ازدياد الأنشطة الاستثمارية للجمعية، وغالباً ما تبدأ الجمعيات الأهلية بالشكل التجاري الأصغر (سجل تجاري) ثم يتضخم العمل وتتنوع الأنشطة فيتحول السجل إلى شركة.. ومع هذا التطور التدريجي لا يتفطن أعضاء مجلس الإدارة إلى أن هذا الذراع الاستثماري الوليد شخصية اعتبارية مستقلة عن الجمعية (تشرف عليه وزارة التجارة)، وأن من المصلحة استقلاله عن الجمعية واستقطاب الكفاءات المتخصصة حسب نوع النشاط الذي تمارسه هذه الشركة. وعند ازدياد أصول الشركة الاستثمارية تتولد الحاجة إلى تحويلها لشركة مساهمة لضمان مستوى حوكمة عالٍ واستقلال كامل عن شخصية الجمعية الخيرية ولتعزيز قدرتها ومرونتها في اتخاذ القرارات الاستثمارية.
  • إذا كانت الأصول الاستثمارية المدارة عائدة على الجمعية من الأوقاف فالواجب أن تكون الشركة مملوكة للوقف وليس للجمعية، ولضمان حوكمة الشركة وضمان مرونة إدارة أملاك الشركة العقارية غير الموقفة فمن الممكن أن يكون شكل الشركة (مساهمة مبسطة) ثم تحول إلى مساهمة مقفلة عند ازدياد أصولها. أما إذا كانت الأصول عائدة على الجمعية من أموال غير وقفية فلامانع من تأسيس شركة استثمارية مملوكة للجمعية الخيرية مباشرة.
  • قد تحتاج الجمعية إلى ممارسة نشاط تجاري ذا بعدٍ اجتماعي كإنشاء عيادات طبية أو مدارس أو رياض أطفال أو مراكز تدريب أو منصات رقمية أو غيرها من أنشطة الاستثمار الاجتماعي وترغب أن تدار هذه الأنشطة التجارية بحرية بعيداً عن قيود النشاط الاجتماعي الذي تفرضه الجهة الإشرافية للجمعية مع الالتزام بتنظيمات الجهات الإشرافية ذات العلاقة بالنشاط التجاري نفسه؛ لذا فربما كان من المناسب تأسيس شركة غير ربحية خاصة لإدارة هذه الأنشطة، وربما كان من الأنسب أيضاً أن يكون شكلها (شركة مساهمة مبسطة) على الأقل لمنحها استقلالية أكبر عن الجمعية لدى الجهات الإشرافية ذات العلاقة بالأنشطة التجارية للشركة.
  • نظراً لأن أنشطة الاستثمار الاجتماعي لاتستهدف الربح ابتداء فقد يكون من المناسب إدخال الوقف كأحد المؤسسين ليشارك في تمويل الشركة غير الربحية، ولكون الشركة مظنة تأسيس أصول محسوسة وغير محسوسة فالأصل في مثل هذه الحالة أن يُنَص على أن يكون مآل أصول الشركة غير الربحية للوقف.

وبناء على سبق يمكن تصور الوقف في نموذج العمل الخيري ككيان مستقل يحفظ أصوله ويضمن تدفق السيولة على كيان النشاط الخيري (الجمعية الأهلية) ويسهم في تمويل الاستثمار الاجتماعي (الشركة غير الربحية)، وكل هذا في سياق مبادرة أو مبادرات مجتمعية تطوعية تدار من خلال مجموعة من الكيانات التي تتكامل في أدوارها.