نماذج أوقاف عالمية
يعد قطاع الأوقاف من القطاعات التي لها إسهامات كبيرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية على مر التاريخ، وكان له دور بارز في تلبية الاحتياجات والأولويات التنموية في مختلف المجالات الصحية والاجتماعية والتعليمية، وهناك نماذج مشرّفة من الأوقاف بقيت آثارها خالدة إلى يومنا هذا، ومن قرأ تاريخ الوقف سيرى بوضوح أن الدول والحضارات ارتبطت بالوقف ارتباطًا وثيقًا من حيث النهضة والانحطاط، والتقدم والقوة وضدها، حيث قامت عليه أهم المصالح والمرافق الأساسية، إضافة إلى سعة ساحة الوقف وشموله شتى مجالات الحياة.
وكما كان الوقف الإسلامي زاخرًا بالأوقاف التنموية التي ساعدت على بناء المجتمعات والحضارات؛ فإن النماذج الوقفية الغربية كانت جديرة بالبحث والدراسة وذلك لتأثيراتها الكبيرة في بناء مجتمعاتها حتى وإن اختلفت في الطريقة والأسلوب، فالدول الغربية اهتمت بالوقف وجعلت منه وسيلة للتنمية والبناء والتقدم والحضارة، وتسارعت الدول الغربية في الاستفادة من الوقف في شتى مجالات حياتها، مما أسفر عن نماذج وقفية عالمية شديدة التأثير العالمي والإقليمي، نستعرض بعضاً منها في مقالتنا هذه:
ويعتبر وقف بيل وميليندا جيتس (مالك شركة مايكروسوفت وزوجته) هو أكبر وقف عالمي من حيث الحجم والتأثير، وقد تأسس هذا الوقف في سياتل بواشنطن بقيمة 126 مليون دولار امريكي، وشهد هذا الوقف نموًا خلال العامين الأولين من خلال التمويل ليصل إلى 2 مليار دولار، وتقدر قيمة الوقف حاليًا بأكثر من 42 مليار دولار، مما يجعله أكبر وقف على مستوى العالم حتى الآن، ويعمل فيه أكثر من 1382 موظفاً.
ويتركز عمل الوقف -مع شركاء في جميع أنحاء العالم- في معالجة المشكلات الحرجة في خمس مجالات هي: (1) قسم الصحة العالمية، (2) قسم التنمية العالمية، (3) قسم النمو والفرص العالمية، (4) شعبة الولايات المتحدة التي تعمل على تحسين التعليم الثانوي في الولايات المتحدة والتعليم ما بعد الثانوي، ودعم الأطفال والعائلات الضعيفة في ولاية واشنطن، (5) قسم السياسات والدعم العالمي.
ويؤكد منهج المؤسسة فيما يتعلق بتقديم المنح على التعاون، والابتكار، وتحمل المخاطر، والأهم من ذلك، النتائج، وتتمثل منهجية الاستثمار في وقف بيل وميليندا جيتس في حصص استثمارية في شركات غير مملوكة للوقف وفي القروض والضمانات، وقد بلغ العائد على الاستثمار للوقف في عام 2017م نحو 2.103 مليار دولار، وبلغ حجم المنح في نفس العام نحو 4.42 مليار دولار، كمل بلغ حجم التبرعات للوقف في عام 2017م نحو 2.56 مليار دولار.
ومن النماذج الوقفية البارزة أيضًا مؤسسةStichting INGKA الوقفية بهولندا، وهي مؤسسة هولندية تأسست في عام 1982م من قبل انجفار كامبارد Ingvar Kamprad الملياردير السويدي، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الوقفية في العالم وثاني أكبر منظمة غير ربحية في العالم، وتركز المؤسسة على المشروعات الشبابية، ومشروعات توليد الدخل، ومشروعات مكافحة الأمراض، ومشروعات ذوي الاحتياجات الخاصة، وتمتلك المؤسسة شركة INKKA القابضة، ومقرها في ليدن، وهي الشركة القابضة التي تسيطر على 315 منفذ من منافذ شركة ايكيا، وتمتلك -أيضاً- محلات ومصانع وعدد من الماركات العالمية وبرامج الامتياز التجاري، شركة INGKA. IKEA هي الذراع الاستثماري للمؤسسة وتدر عائداً من المحلات التي تحمل علاماتها التجارية، فالاستثمارات الرئيسية للمؤسسة تتمثل في عائد المحلات والعلامات التجارية ويبلغ حجم الوقف 39 مليار دولار، ويعمل بها أكثر من 234 موظف.
مؤسسة غارفيلد ويستون Garfield Weston بالمملكة المتحدة، هي مثال ثالث للتميز الوقف المؤسسي، وهي مؤسسة منح عائلية تقوم بتقديم المنح الخيرية، وتدعم مجموعة واسعة من البرامج الخيرية في جميع أنحاء المملكة المتحدة، حيث تتبرع المؤسسة بأكثر من 62 مليون جنيه استرليني سنوياً، وقد تم تأسيس غارفيلد ويستون في عام 1958م من قبل عائلة ويستون، وتبرعت في عام 2018م بمبلغ 1 مليار جنيه استرليني لتصبح واحدة من أكبر المؤسسات الوقفية في المملكة المتحدة.
وينحدر الأمناء من المؤسس غارفيلد ويستون، وتواصل عائلة ويستون اتباع نهج عملي يتسم بالديناميكية الشديدة، وتركز المؤسسة على تقديم الخدمات والأنشطة إلى المحتاجين، وتستجيب للطلبات المقدمة من المؤسسات الخيرية في قطاعات الرعاية الاجتماعية والشباب والمجتمع، وكذلك في المناطق المحرومة اقتصادياً، وتستفيد حوالي 2000 مؤسسة خيرية في المملكة المتحدة كل عام من المنح التي تقدمها أوقاف غارفيلد ويستون والتي تتراوح بين المشاريع الصغيرة والأعمال التطوعية إلى المنظمات الوطنية الكبيرة.
وتهدف المؤسسة إلى تقديم البرامج الأكثر احتياجًا، وبالتالي تدعم مجموعة واسعة من الأنشطة الخيرية في الفئات التالية: الفنون، التعليم، الشباب، الصحة، المتاحف والتراث، التواصل الاجتماعي، البيئة، العقيدة، الرفاهية، وتتمثل الأهداف الاستثمارية للأمناء في الحفاظ على القيمة المطلقة لرأس المال، وتتبنى المؤسسة استراتيجية استثمار تستثمر في محفظة متوازنة دون قيود جغرافية أو قيود خاصة بالقطاعات أو العملة، ويعمل بمؤسسة غارفيلد ويستون نحو 90 موظف.
وفي المملكة المتحدة أيضًا، نجد أوقاف ويلكوم ترست Wellcome Trust ذات التميز الوقفي التعليمي والصحي، والتي تم تأسيسها في عام 1936م كصندوق خيري مستقل لتمويل الأبحاث وتحسين صحة الإنسان والحيوان، ويهدف الصندوق إلى تحقيق تحسينات مهمة في الصحة عبر دعم الفكر المبدع، بالإضافة لدعم البحث الطبي الحيوي، ويقوم الصندوق بدعم تبسيط العلوم لعامة الناس في مجال البحث الطبي.
ويعتبر صندوق ويلكم الثاني عالمياً بعد مؤسسة بيل ومليندا غيتس، وأيضاً تعتبر ويلكوم ترست هي أكبر مزود في المملكة المتحدة للتمويل غير الحكومي للبحث العلمي، وواحد من أكبر مقدمي الخدمات في العالم في مجال الأبحاث الطبية، وثاني أكبر ممول من القطاع الخاص في العالم بعد مؤسسة بيل وميليندا غيتس، والمحفظة الاستثمارية لوقف ويلكوم ترست تبلغ 23.3 جنية استرليني، ويستفيد منها أكثر من 70 دولة حول العالم، وفي عام 2015م بلغت قيمة المنح التي قدمها الوقف نحو 952 مليون جنية إسترليني، ويركز وقف ويلكوم ترست على الاستثمارات الأقل مخاطر، والاستثمار طويل الأجل لتعظيم النتائج والأثر المجتمعي، وعلى إنشاء تحالفات وشراكات استراتيجية مع منظمات محلية وعالمية، والاستقلالية في الإدارة واعتماد سياسات واضحة للاستقلالية، ويعمل بوقف ويلكوم ترست نحو 2057 موظف.
وعلى صعيد آخر، تعتبر المؤسسات الوقفية الهندية مثالاً بارزًا في العمل الوقفي الغربي، حيث تعتبر أوقاف تاتا الهندية من النماذج الوقفية الرائدة عالمياً التي حققت سمعة عالمية كبيرة كونها من أكثر الأوقاف نشاطاً في مجال العمل الخيري، مما جعلها مثالاً يحتذى في عمل الخير والبذل والعطاء، وتعتبر تجربة أوقاف تاتا هي تجربة ثرية في العمل الوقفي استطاعت أن تنقل العمل الخيري من بوتقة العطاء والتبرعات إلى مفهوم العمل الخيري الإستراتيجي الهادف إلى إحداث تغييرات حقيقية في المجتمعات التي يعمل بها الوقف.
ويُعد مفهوم الدعم المجتمعي من المفاهيم الراسخة لدى أوقاف تاتا والتي يتم منحها ما يقرب من 66% من عائدات الشركة الاستثمارية الرئيسية لعائلة تاتا.
كما تعتبر مؤسسة Azim Premji بالهند من النماذج الوقفية الرائدة؛ حيث بدأت المؤسسة بتنفيذ برامج متنوعة لتحسين جودة التعليم في جميع أنحاء البلاد، وتمتلك المؤسسة الآن معاهد في نحو 40 مقاطعة، وتركز المؤسسة على التعليم والمجالات المتصلة به في الهند مثل: الصحة، والبيئة، والحوكمة، وغيرها، ويبلغ حجم وقف Azim Premji نحو 9.8 مليار دولار، وتمثل أصول وقف المؤسسة فقط 39% من أسهم شركة Wipro والتي تقدم خدماتها في مجال تقنية المعلومات، ويعمل في وقف Azim Premji أكثر من 1000 موظف.
وشجعت الحكومة الهندية ذاتها على تنمية الأوقاف عبر القروض الصغيرة، فقد أنشأت برنامج تنمية الأوقاف الإسلامية الحصرية، وخصصت له منحة مالية قدرها 500.000 روبية هندية يستخدمها المجلس المركزي للأوقاف في تقديم قروض صغيرة لتمويل مشروعات وقفية في المدن، وقد استطاعوا أن يصلوا بالمبلغ إلى 150 مليون روبية خلال 25 عامًا، وبقي المبلغ إلى تاريخه مستثمَراً في القروض الوقفية، وعوائده رأسمال للصندوق.
وتوجد بعض المؤسسات الوقفية في الغرب على شكل جامعات أو مستشفيات أو شركات أو أسهم في شركات، وتزاول أعمالها وأنشطتها التجارية غالباً على اعتبار أنها مؤسسات غير ربحية معفاة من الضرائب. وهناك أنواع كثيرة من الأوقاف؛ من أبرزها: المؤسسات الوقفية الخاصة ويصل عددها إلى 103.880 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 74% من العدد الحقيقي لتلك المؤسسات، ودخلها من السيولة المالية لعام 2005م ما يقارب 242 مليار دولار، ولديها أصول ثابتة تتجاوز قيمتها 421 مليار دولار. ومن أبرزها -أيضاً- المؤسسات الخيرية العامة، ويصل عددها إلى 332.988 مؤسسة مسجلة، وهي تشكل 39% من العدد الفعلي، وكانت السيولة والتبرعات التي قدمت لها عام 2005م تقارب 1.5 تريليون دولار، وتصل قيمة أصولها الثابتة للعام نفسه نحو 2 تريليون دولار.
كما يدخل تحت اسم المؤسسات الوقفية الخاصة كثير من المؤسسات الوقفية في الغرب، مثل: وقفيات (وارن بافت) الأمريكي وقيمتها 37 مليار دولار، وهي تساوي 85% من ثروت،
ولعل من أبزر الأوقاف التعليمية الغربية أوقاف هارفارد، وقد تأسست شركة “إدارة أوقاف هارفارد” في عام 1974م، وهي تتولى شؤون أوقاف جامعة هارفارد، وهي شركة فريدة من نوعها بين شركات إدارة الاستثمار؛ فهي تدير الشؤون المالية لأكبر وقف جامعي في العالم (وقف جامعة هارفارد)، والذي بلغ حجمه في عام 2012م نحو 30.435 بليون دولار امريكي، وتقوم شركة هارفارد على تحقيق نتائج استثمارية طويلة الأجل تدعم الأهداف التعليمية والبحثية للجامعة، وتتبع أسلوباً فريداً في إدارة الاستثمار تطلق عليه “النموذج الهجين”، وتمتلك شركة إدارة أوقاف هارفارد فريقاً متخصصاً في منصة تداول “الأسواق العامة” وفريقاً آخر لمنصة تداول الأصول البديلة؛ وذلك بهدف إدارة الاستثمارات في طريقة تمنح الشركة المرونة الكاملة، والذكاء في التعامل مع تقلبات الأسواق، وقد حققت نمواً كبيراً في رأس المال.
وتؤكد الأرقام السابقة أن الأوقاف تُعدّ من أقوى محركات التنمية المستدامة البشرية والمادية في الغرب، ومازال الأمل في مزيد من تجارب ناجحة للدول الأخرى مما تبشر بتوجه جاد نحو إحياء دور مؤسسة الوقف، وهذا القطاع العريض تقوم على خدمته أنظمة ودوائر رسمية حرصاً على تنميته واستدامته، فهو المغذي الرئيس للقطاع الثالث المعني بتنمية المجتمع؛ باحتياجاته المختلفة التعليمية والصحية والمهنية والبحثية والاقتصادية وغيرها في مجالات الحياة المختلفة.
وكما نرى أن أصل الفكرة ولدت في أحضان الحضارة الإسلامية وبقيت على مدار التاريخ تجربة فريدة للأوقاف الإسلامية، وامتدت منذ أن بذرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنّه حالياً تتنافس الدول الغربية على خدمة هذا القطاع لمعرفتها التامة بأهمية المؤسسات الوقفية في مساعدتها على القيام بأعباء الخدمة المجتمعية، والارتقاء بالخدمات الإنسانية.