سابقة قضائية في إنعاش وقف
الاقتصاد الوطني بحيرة مائية ضخمة، تخرج منها وتعود إليها روافد الاقتصاد عبر قنوات اقتصادية يكون فيها المال دُولةً في ساحة المصلحة العامة.
تعد الأوقاف من تلك الروافد الاقتصادية المهمة، وكلما نمَت نمّت عن تطور اقتصادي وحضاري كما هو معلوم عبر تاريخ الوقف حتى عصرنا الحاضر.
غير أن بعض العقبات والشوائب تحول دون جريان الأوقاف في جداولها الاقتصادية وهي تسعى إلى نهضة الوطن، وتمنع من تحرك المال نحو بحيرة الاقتصاد، ما يعطل التنمية إلى حدٍ غير هيّن.
ولعل مسألة “استبدال أصول الوقف” من أهم تلك العقبات؛ حيث يشدد الفقهاء في بطون الكتب والقضاة في بطون المحاكم على مسألة الاستبدال منعاً؛ دام أن العقار لم يتعطل أو ضعفت غلته إلى ما يشبه التعطل، وثمة من يأذن من الفقهاء والقضاة بالاستبدال شريطة تحقق الغبطة والمصلحة للوقف والموقوف عليهم، حتى لو لم يتعطل الوقف، وحتى لو لم ينص الواقف على إمكانية الاستبدال، مرجعهم في ذلك مصلحة الوقف المتحققة في استبداله. ولا يخلو هذا التوجه مع وجوده والعمل به من عقبات تواجه الوقف حين استبداله، فقد لا يتمكن الناظر من إيجاد العقار البديل المناسب، أو يحبَط في إقناع الدائرة القضائية بأن العقار البديل يحقق الغبطة والمصلحة ويساوي أجرة المثل، أو يعجز عن إيجاد عقارٍ بالقيمة نفسها التي قُـــيّم بها عقار الوقف المنتَزَع، وربما انسحب البائع من بيع العقار على الوقف ضجراً من طول الإجراءات… أو غير ذلك من الأسباب الناتجة عن ضرورة التأكد من تحقق الغبطة ونية قرار الشراء، ما يجعل الوقف فيها معلقاً عن النفع، لابثاً على حاله هذه سنين عددا.
وفي إطار استبدال الوقف وتحقيق الغبطة وإعمال ما يحقق المصلحة تظهر حالة شائعة، وعقبة تنازع فيها الأوقاف أرواحها، وهي انتزاع الأوقاف للمصلحة العامة، وحال تلك الأوقاف وهي تنازع الروح تبحث عن أصول أخرى تُستبدل بها، حتى تندثر أو تكاد؛ كالعقارات المنزوعة لغرض توسعة الحرمين الشريفين؛ إذْ إن في انتزاعها مصلحة عامة للمسلمين، وضرورة ماسة للتوسعة، ومثل ذلك: الأوقاف التي تزال من منطقة معنية لغرض تطويرها، أو إقامة مشاريع استثمارية عليها؛ تحقق مصلحة راجحة للوطن، بينما في المقابل تواجه الأوقاف المنزوعة مصيراً مجهولاً قد يمتد لسنوات، وهذا لا شك أن فيه إلحاق ضرر بالغ بالوقف، مع إدراك أهمية التدقيق، وضرورة إعمال اللازم من المحكمة في التأكد من أن الأصل المراد شراؤه يحقق للوقف الغبطة والمصلحة، وأن الناظر لم يتسرع باتخاذ قرار الشراء سواء كان ذلك بحسن نية منه أو غير ذلك.
ولذا؛ ولكي تستمر بَركة الأموال الوقفية بالتدفق إلى بِركة الاقتصاد الوطني فإني ألفت الانتباه إلى سابقة قضائية تحدو إلى قناة قد لا يُتَنَبّه لها؛ وهي استبدال العقار بأعيان أخرى غير العقار، ولو وفق شروط معينة وضوابط محددة؛ فقد وقفتُ جراء عملي في استثمار المستقبل على حدث في إحدى محاكم وطننا الطموح؛ أن انــتُــــزِعَ عقار بقيمة قُدّرت بأقل من مليون ريال، وهذه قيمة لا يستطيع الناظر بها شراء عقار بديل مناسب، غير أن الناظر القوي الأمين هداه الله إلى سبيلٍ لتجاوز هذه العقبة؛ فطلب من فضيلة الشيخ ناظر الدعوى الإذنَ بجعل قيمة هذا العقار في وحدات استثمارية في صندوق عقاري استثماري، وبعد تحقق فضيلته من خلال مخاطبة الهيئة العامة للأوقاف، وإفادة الهيئة له بأن ذلك يحقق الغبطة والمصلحة، حكم باستبدال وحدات في هذا الصندوق بأصل الوقف المنتزَع، وسمح بصرف المبلغ للناظر ليشتري بها هذه الوحدات، ورفع الحكم للاستئناف وجوباً، وأيّد الاستئنافُ الحكم، وبهذا تعد سابقة قضائية.
أقول: ماذا لو عُمِّمَت هذه السابقة وعُمل بها في سائر محاكم المملكة لإنعاش الأوقاف التي بقيت مبالغُ تقديرات أصولها العقارية محجوزة لسنوات طويلة، بل إن تلك المبالغ في تناقص مطّردٍ عاماً بعد عام بسبب التضخم، الأمر الذي يحدو بالوقف إلى الاندثار أو الضياع، ناهيك عن بقائه “كالمعلّقة” بين المحكمة والناظر والموقوف عليهم، وهذا ما لا يرتضيه الواقف على وقفه، والموقوف عليهم على منفعة تملّكوها؛ لأنه يضر بهم جميعاً فضلاً عن ضرره الاقتصادي.
وختاماً؛ فإن أنظمة الصناديق الاستثمارية أتاحت إمكانية وضع ضوابط لكل صندوق؛ فلو خُصص صندوق استثماري عقاري -تحت إشراف هيئة سوق المال- للاستثمار في عقارات مكة والمدينة، يدار بطريقة استثمارية حديثة، وتسهم فيه الأوقاف التي لديها مبالغ محجوزة، ويتمكن الصندوق من تملك العقارات لصالح هذه الأوقاف المساهِمة، لكان في ذلك استفادة من تجربة ناجحة وسابقة قضائية، وتحريكاً للمال الموقوف المتعطل، وتنشيطاً للاقتصاد وإنعاشاً له، وإحياءً للوقف، ودفعاً له نحو تحقيق مصلحتين: غبطة الوقف، واقتصاد الوطن.