الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الناظر على الوقف هو ذلك الشخص الذي يتولى مسؤولية إدارة الوقف ومتابعة شؤونه وتحقيق مقاصده وأهدافه والمحافظة عليه ونحو ذلك مما يضمن دوام الوقف ودوام نفعه بإذن الله تعالى، ولما كانت هذه المسؤولية تتضمن كلفة وجهدا -حسيا أو معنويا أو كليهما([1])– يبذله الناظر لمصلحة الوقف كان له الحق في الحصول على أجر مقابل ما يقدمه للوقف، وهذا مما اتفقت عليه المذاهب الأربعة إذا اشترط الواقف الأجرة للناظر، وهو قول جمع منهم في حال لم يشترط الواقف الأجرة([2])، وقد نصت الأنظمة على حق الناظر بالأجرة([3]).
وإن مما يحيّر كثيراً من الواقفين والنظار تحديد مقدار أجرة الناظر، وهل تكون مبلغا مقطوعا أم نسبة من صافي الغلة؟ كما أن بعض النظار يخلط في تكييف أجرة الناظر عندما ينص عليها الواقف فيظن استحقاقه لهذه الأجرة كاستحقاقه لأرباح شركة يساهم فيها، ولذلك تجده يرفض حسم شيء من أجرته لو قصَّر في أداء مهامه بحجة أن الواقف نص عليها! مع أن الواقف جعلها في مقابل النظارة وليست تبرعا محضا([4]).
وغالب من يتحدث عن أجرة الناظر يتحدث عن تأصيل المسألة فقها ونظاما، ولكن قلَّ من يتطرق لتنزيل هذا التأصيل على الواقع، وفي هذه الورقة محاولة لمعالجة هذه المسألة واقتراح معايير تساعد في تحديد مقدار أجرة الناظر، وتحرير ما يستحق الناظر الأجرة عليه، ولعل مما حفزني للكتابة في هذا الموضوع هو ما رأيته من تركيز بعض الخبراء في محاكم الأحوال الشخصية على حجم الوقف أصلاً وإيراداً، وكأنهم أغفلوا ما يتعلق بالناظر مع أن بعض المعايير تخص الناظر لا الوقف كما سنذكر.
بدايةً وعند الرجوع لضابط تحديد الأجرة في الشريعة نجد الفقهاء يضبطونها بالقاعدة الفقهية الكبرى: (العادة محكمة)، فتقدير أجرة الناظر منوطة بالعرف ما لم ينص الواقف على خلافها، وقد جاء في حديث وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: “لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف”([5])، أي: بحسب ما يتحمله ريع الوقف على الوجه المعتاد([6])، وهذا الضابط يتَّسم بالمرونة والمناسبة لكل زمان ومكان، وتنزيله على واقع زمن ومكان معينين يحتاج لاجتهاد وتحرير واستقراء لمعرفة العرف.
وبالنظر للواقع المعاصر نجد أن مجالس النظارة تشبه إلى حد كبير مجالس إدارات الجمعيات والشركات، فاستقراء أنظمة مجالس الإدارة وممارساتها يساعد في معرفة عرف الناس في أجرة المثل، لا سيما مع تطوُّر حوكمة الأوقاف ومقاربتها لحوكمة الجمعيات والشركات إلى حدٍّ ما، وهنا أؤكد على وجود فارق بين مجالس إدارة الجمعيات والشركات ومجالس النظارة، والشبه بينهما جزئي وليس كليا، ومن أبرز الفروقات أن للجمعيات الأهلية جمعيات عمومية، وللشركات ملاكاً، وهؤلاء يشرفون ويحفزون ويحاسبون مجلس إدارة الجمعية والشركة، بينما لا يوجد في الأوقاف جمعيات عمومية ولا ملاك يمارسون هذا الدور.
ويمكن أن نذكر من المعايير التي اعتبرها عرف زماننا في تحديد أجرة المثل ما يلي([7]):
الأول: نوع العمل وقدره وكلفته والوقت الذي يستغرقه:
إن نوع العمل الذي سيقوم به الناظر والوقت الذي سيخصصه للوقف يؤثر في أجرة المثل لكونه يستحق الأجرة في مقابل هذا العمل، والأجرة إنما هي: “المقابل المالي لإدارة الناظر للوقف ومسؤوليته عنه بطريقة مباشرة”([8])، وحجم العمل ووقته يتأثر بأمور كثيرة منها:
- النشاط الاقتصادي: فلكل وقف ريعي نشاط اقتصادي، وقد يكون هذا النشاط عقاريا أو استثمارا في الأوراق المالية أو غير ذلك، والناظر على وقف أصوله عقارية ليس كالناظر على وقف أصوله محافظ استثمارية؛ فالجهد في الأول -غالبا- أكبر من الجهد في الثاني.
- الهيكل الإداري وتوزيع الاختصاصات والصلاحيات: فالمجلس الذي يباشر العمل بنفسه ليس كالمجلس الذي تتفرع عنه لجان تنفيذية ونحوها، والوقف الذي يحتضن كافة العمل في كيان واحد ليس كالوقف الذي يتملك عدة كيانات لكل منها مجلس مستقل.
- عدد أعضاء المجلس: فكلما زاد العدد قلَّت المهام على عضو المجلس، والعكس بالعكس، والأجرة إن كانت مبلغا مقطوعا فسوف تزيد بزيادة الأعضاء وتنقص بنقصهم، وليس الحال كذلك لو كانت نسبة من الغلة، ولكن الناظر سينقص نصيبه في حال كانت الأجرة نسبة من الغلة، وبالتالي قد لا يحرص على قبول ناظر منضم معه، والمهم هنا هو وجوب مراعاة العدد عند تحديد أجرة المثل.
- حجم الوقف: ولأهمية هذه النقطة أفردتها بمعيار خاص.
وقد ورد في نظام الشركات ولائحته التنفيذية ما يؤكد تأثر الأجرة بقدر العمل وكلفته حيث نصت المادة (21) من اللائحة التنفيذية على ضوابط مكافآت أعضاء مجلس الإدارة ومنها: “أن تكون المكافآت عادلة ومتناسبة مع اختصاصات العضو والأعمال والمهمات المنوطة به، والأهداف المحددة من قبل مجلس الإدارة المراد تحقيقها خلال السنة المالية”، كما أجازت اللائحة تفاوت المكافأة بناء على الأعمال والمهام المنوطة به، وعدد الجلسات التي يحضرها.
الثاني: الخبرة والكفاءة:
إن من المعايير المهمة في تحديد أجرة المثل النظر إلى خبرة وكفاءة الناظر([9])، فمما لا شك فيه أن الخبرة تزيد من قيمة العامل في سوق العمل، وعدم مراعاة هذا المعيار ضيع على كثير من الأوقاف استقطاب كفاءات كان بالإمكان أن تُسهم في تعظيم أثر تلك الأوقاف بإذن الله تعالى.
وزيادة مقدار الأجرة لاستقطاب الكفاءات يصب في مصلحة الوقف في نهاية الأمر إذا كانت وفق تقدير صحيح، فلا إفراط ولا تفريط، ولولا ذلك لما رأينا الشركات ذات المصالح الشخصية تتنافس في استقطاب الخبرات والكفاءات وتنفق في سبيل ذلك المبالغ الكبيرة، بل إن نظام الشركات ولائحته التنفيذية ذكرا من ضوابط مكافآت أعضاء مجلس الإدارة أن تكون المكافأة مناسبة لاستقطاب أعضاء ذوي كفاءة وخبرة وتحفيزهم والإبقاء عليهم، كما أجازت اللائحة تفاوت المكافأة بناء على خبرات العضو واختصاصاته.
الثالث: المسؤولية القانونية وحجم الوقف:
ومن المعايير المهمة التي يغفل عنها الكثير المسؤولية القانونية التي يتحملها الناظر عند توليه للنظارة، إذ إنه قد يتعرض لمساءلات أو عقوبات نظير تقصير أو خطأ غير مقصود، ويختلف خطر هذه المسؤولية على الناظر بحسب حجم الوقف، فالمسؤولون عن الكيانات الكبرى كأعضاء مجالس الإدارات والرؤساء التنفيذيين يتقاضون أجرة أكثر من أولئك الذين يديرون كيانات أصغر حجما، بالإضافة إلى أن الكيانات الكبرى تنافس على استقطاب ذوي الكفاءة والخبرة مما يزيد من قيمة أجرتهم.
وقد أكدت لائحة حوكمة الشركات المدرجة الصادرة من هيئة السوق المالية في المادة (62) على وجوب مراعاة بعض الضوابط في تحديد مكافأة أعضاء مجلس الإدارة، ومنها: “انسجامها مع حجم وطبيعة ودرجة المخاطر لدى الشركة”، وهذا يفيد أثر المخاطر في تحديد الأجرة، ومن ذلك المخاطر القانونية على العضو.
ومما يؤكد خطورة هذه المسؤولية القانونية في الكيانات الكبرى ما ورد في نظام الشركات في المادة (28) في الفقرة (3): “للشركة أن توفر تغطية تأمينية لمديرها أو عضو مجلس إدارتها خلال مدة عمله أو عضويته ضد أي مسؤولية أو مطالبة تنشأ بسبب صفته”، وقد ظهرت شركات تأمين توفر تأمينا خاصا لمجالس الإدارات في الشركات عند تعرضهم للمساءلة والمطالبة، ومخاطر مسؤولية عضوية مجلس النظارة مثل مخاطر مسؤولية عضوية مجلس الإدارة، والقصد من هذه الفقرة بيان مدى تأثير المسؤولية القانونية للعضوية فقط.
الرابع: الواقع العملي:
يمكن أن يساهم في تحديد الأجرة معرفة الواقع العملي عند الواقفين، وبحسب اطلاعي فإن غالب الأوقاف المتوسطة اليوم تخصص ما نسبته 5% من صافي الغلة مكافأة للنظار بالتساوي، وهذه النسبة تزيد مع صغر الوقف وتنقص مع كبره، وإذا كان الوقف كبيرا جدا فيفضل الواقفون أن تكون الأجرة مبلغا مقطوعا سنويا وعن كل جلسة.
أما النسبة المخصصة للهيئة العامة للأوقاف فهي 10% من صافي غلة الأوقاف التي تكون ناظرة عليها([10]).
الخامس: متوسط مكافآت أعضاء مجالس الإدارات:
لعل مما يساعد على تحديد أجرة المثل في الأوقاف الكبيرة معرفة متوسط مكافآت أعضاء مجالس الإدارات، ويمكن معرفة ذلك بالتفصيل فيما يخص الشركات من خلال إفصاحات الشركات عن مكافآت أعضاء مجالس الإدارات المعلنة في المواقع الرسمية لتلك الشركات، فلائحة حوكمة الشركات المدرجة الصادرة من هيئة السوق المالية تلزم الشركات بالإفصاح كما في المادة (93)، وقد اطلعت على دراسة لمكافآت مجالس وأعضاء لجان عدد (21) شركة مدرجة في سوق الأسهم فظهر لي بأن متوسط مكافآت أعضاء مجالس الإدارة (200,000) ريال في السنة، ومتوسط مكافأة الجلسة (3000) ريال، ومتوسط عدد الجلسات (4-5) جلسات سنويا، وهذه الأرقام تقريبية.
أما ما يخص الجمعيات فإن المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي قد أصدر (قواعد حوكمة الجمعيات) وذكر فيها ضوابط مكافأة أعضاء الجمعيات وكان منها: ألا تتجاوز مكافأة العضو الواحد سنويا (50) ألف ريال ولا تتجاوز 10% من صافي أصول الجمعية، وأجازت مكافأة الرئيس أكثر من الأعضاء بشرط ألا تزيد عن نصيب العضو بأكثر من 50%.
السادس: اختلاف الزمان والمكان:
إن اختلاف زمان ومكان الوقف مؤثر في تحديد أجرة المثل، فالحالة الاقتصادية تختلف باختلافهما، وهذا ينعكس على أجرة الناظر، كما أنهما يؤثران على قدر العمل، فالناظر على وقف في مدينة ذات أسواق رائجة، أو تعاني من غلاء الأسعار، ليس مثل ناظر في مدينة غير تلك.
وفي الختام:
إن مما يهم الواقفين والنظار معرفة ما يدخل في نطاق عمل الناظر وما لا يدخل، ولعل الله ييسر مقالا أو بحثا قادما يعالج هذه المسألة بإذن الله تعالى.
وأرجو أن تكون هذه الورقة نافعة للواقفين والمسؤولين عن تحديد أجرة الناظر من الخبراء في المحاكم والمختصين في مجال الأوقاف ولكل من يهمه هذا الأمر، وأسأل الله أن يبارك فيما كتبت، وصلى الله على نبينا محمد.