حوكمة الوقف كعملية إدارية

تناولنا “حوكمة الأوقاف” في أكثر من موضع من زاوية التنظيم والعلاقات والإطار القانوني، إلا أننا لم نتطرق إلى كيفية تطبيق هذه المبادئ والتنظيمات داخل الأوقاف الكبيرة والمتوسطة.

تناقش هذه المقالة طرق وآليات تطبيق الحوكمة داخل الأوقاف الكبيرة والمتوسطة وآليات تفعيل دور مجالس النظارة لتحقيق أفضل مستويات الحوكمة.

حوكمة الوقف وقيادة التغيير:

إن تطبيق مبادئ الحوكمة في الأوقاف الكبيرة والمتوسطة هو أشبه بقيادة للتغيير، لايمكن أن يتم بين فينة وضحاها، ولايتحقق من خلال شراء منتجات حوكمة ولوائح جاهزة! بل لابد أن يمر بنفس مراحل وخطوات إدارة التغيير في المنظمات والتي يمكن اختصارها بأربع مراحل رئيسة:

  • توليد شعور بوجود مشكلة؛ لإخراج القيادات والأفراد من مربع الراحة.
  • الاتفاق على إطار عام لحوكمة الوقف بدون الدخول في تفاصيل كثيرة.
  • خوض تجارب التطوير والتحسين وتحقيق النجاحات المتتابعة صغيرة وكبيرة والاحتفال بها.
  • استكمال بناء ثقافة الحوكمة واعتماد أنظمتها وإجراءاتها داخل الوقف.

لكل مرحلة من هذه المراحل سمة تميزها، فالتحدي في المرحلة الأولى هو في تغيير القناعات بأن الأمور جيدة ولا داعي للتغيير، ويكون ذلك من خلال إبراز المشكلات على السطح، والتذكير الدائم بالمهددات والمخاطر وجعلها نصب أعين متخذي القرار.. وتقفل المرحلة إذا اتفق أعضاء المجلس على وجود حاجة للتغيير متمثلة في عنوان عريض اسمه (حوكمة الوقف).

الهدف في المرحلة الثانية هو تغيير بوصلة المنظمة من النظر في مكتسبات ونجاحات الماضي وتمجيد المتاحف والمعارض والأرقام الخادعة إلى النظر في المستقبل والشعور بوجود تغيير قادم، دون الدخول في تفاصيل كثيرة تمنع المضي قدما نحو التغيير، لذا قد يكون من المناسب ختم هذه المرحلة بإطار عام لحوكمة الوقف يعدُّه مستشار متخصص ويعتمده مجلس النظارة.

الدخول في التفاصيل والنقاشات الطويلة ونماذج العمل المتعددة ورفع الوعي بمبادئ الحوكمة هو سمة المرحلة الثالثة، ومن المهم في هذه المرحلة أن يدرك أعضاء المجلس وفريق العمل أنه لاوجود لحلٍّ سحري يناسب الجميع ، وثوب حوكمة واحد يمكن تطبيقه على كل الأوقاف، ومن المهم أيضاً أن يدرك الجميع أهمية المرحلة وأن ما يتفقون عليه اليوم سيكون ملزما لهم في الغد، لذا يجب إشباع كل المواضيع نقاشا وحواراً ودراسة، ويجب أن يتم اختيار مستشار حوكمة يراعي هذا التنوع ويكون لديه من المرونة ما يكفي لتقديم حلول وخيارات متنوعة حسب احتياج الوقف.

المرحلة الرابعة والأخيرة تتم من خلال اعتماد منتجات الحوكمة لدى المجلس، واكتمال بناء أدوات ونماذج الحوكمة، ونضج التجارب والممارسات، وتشرّب فريق العمل لثقافة الحوكمة ومغزاها الحقيقي المتمثل بحماية الوقف واستدامته.

حوكمة الوقف والوظائف الإدارية:

إن من أكبر التحديات التي تواجه الأوقاف الكبيرة والمتوسطة هو كيفية تطبيق مبادئ الحوكمة، والتي لاتنتهي عند التعاقد مع مستشار لبناء أدلة ولوائح الحوكمة واعتمادها من المجلس؛ فمع أهمية البناء التنظيمي للحوكمة إلا أن الحوكمة الفعلية هي ممارسة مقننة تمنح الوقف الأمان والاستدامة، وعلى مجلس النظارة أن يبذل قصارى جهده لحماية الوقف من الإهمال والفساد، وأن يوفر بيئة عمل ونظام واضح يضمن مساءلة المسؤولين ومحاسبة المقصرين، ولايتم ذلك إلا من خلال وجود بطل يرفع الراية ويقود الجميع نحو التحسين والضبط، قد يكون البطل عضوا في مجلس النظارة وربما قام بهذا الدور المدير التنفيذي للوقف، وفي كل الأحوال سيحتاج هذا القائد أن يمارس الوظائف الإدارية الأربعة (التخطيط، التنظيم، التوجيه، الرقابة) للوصول إلى الهدف المنشود، وسنتناول فيما يأتي كل وظيفة من هذه الوظائف بشيء من الإيجاز:

التخطيط:

لابد من التخطيط الدقيق لتحسين مستوى الحوكمة ولا بد أن يتم ذلك بمشاركة كافة مستويات المنظمة، ولإتمام هذه الوظيفة بنجاح لابد من الإجابة على أربعة أسئلة:

أين أنا؟  أين سأذهب؟ كيف سأذهب؟ أين سأصل؟

  • تحليل الاحتياج (أين أنا؟):

مستوى الحوكمة يختلف من وقف لآخر، ومتطلبات الحوكمة أيضاً تختلف حسب حجم الوقف ونوعه وهيكلته، لذا لايتوقع أن تبدأ كل الأوقاف من مرحلة الصفر، بل من المفيد أن يتم إجراء فحص دقيق لقياس مستوى تحقق متطلبات الحوكمة وتحديد الاحتياج الدقيق وذلك من خلال التعاقد مع بيت خبرة متخصص في (حوكمة الأوقاف).

  • تحديد مستهدفات الحوكمة (أين سأذهب؟):

لايوجد نهاية لما يمكن أن تقدمه الحوكمة وللحد الذي ستقف عنده فهي أشبه بالتحسين المستمر من أجل الحماية وتحقيق الأمان، وهدف نظار الوقف من حوكمته هو الذي يحدد منتهى ما سنفعله خلال الفترة القادمة، لذا من المهم أن نسأل النظار سؤالا مباشراً وصريحاً (ما ذا تريدون من الحوكمة؟ مالمشكلة التي تريدون علاجها؟) الإجابة الصريحة على هذا السؤال ستختصر عليك الوقت والجهد وتغنيك عن كثير من النقاشات في المراحل القادمة. ماذا تريد أن تقدم لك الحوكمة؟

هل تريد تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الجهات الإشرافية؟

هل تريد حل مشكلة تسلط أحد النظار على الوقف؟

هل لديك مشاكل في آليات اتخاذ القرار؟ أو في آليات وأدوات الرقابة؟

أم أنت مقتنع تماماً من أن حوكمة الوقف هي السبيل الأفضل لنمو الوقف وحمايته واستدامته، وتريد أن تعزز مبادئ الحوكمة وتغرسها في الحمض النووي للوقف لتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل؟

  • تحديد إطار الحوكمة (كيف سأذهب؟):

الإجابة على السؤال السابق ستحدد لنا معالم إطار حوكمة الوقف؛ فمن هدفه تحقيق الحد الأدنى من متطلبات الجهات الإشرافية يكفيه أن يستكمل مجموعه من الأدوات التنظيمية ونماذج العمل، ومن أراد حل مشكلات هيكلية أو مؤسسية داخل الوقف فسيتمحور إطار الحوكمة حول معالجة هذه المشكلات، أما من كان يبحث عن الاستدامة والنمو والأمان من خلال الحوكمة فسيسعى لتحقيق إطار ذا بعدٍ استراتيجي وأثرٍ قيمي.

إطار حوكمة الوقف هو: توصيف عام لهيكل حوكمة الوقف وحدود العلاقة بين الأطراف ذات العلاقة والكيانات التابعة للوقف، ويناقش– باقتضاب – أموراً مهمة من أبرزها:

  1. نموذج عمل الوقف: ماهي الكيانات التابعة للوقف لغرض (حفظ الأصل، والإدارة والتشغيل، والاستثمار، والمنح)؟ وماهي العلاقات القانونية والمالية والإدارية بينها؟
  2. هيكل حوكمة الوقف: يتناول المستوى الأعلى (الجمعية العامة للوقف إن وجدت) والهيئة الحاكمة (مجلس النظارة) والإدارة التنفيذية (الرئيس التنفيذي وقيادات الوقف) واللجان التابعة للمجلس (لجنة المراجعة، لجنة الترشيحات والمكافآت، لجنة الاستثمار، لجنة المنح..) كما يتناول اللجان التابعة للكيانات المرتبطة بالوقف كالشركة الوقفية.
  3. الإطار العام لتوزيع الصلاحيات: قبل الشروع ببناء أنظمة الحوكمة يجب فهم نفَس قيادات الوقف في تفويض الصلاحيات للمستويات الأدنى. إن مناقشة هذه الأمور ستوفر الكثير من الوقت عند بناء لائحة الحوكمة ومصفوفة الصلاحيات.

اجتياز هذه المرحلة يتطلب عمقاً في فهم حوكمة الأوقاف ومهارة عالية في إدارة الحوار والإقناع، لذا من المهم الاستعانة ببيت خبرة أو خبير مختص عند إعداد إطار حوكمة الوقف.

  • مؤشرات الحوكمة (أين سأصل؟):

اتفاق فريق العمل على مستهدفات دقيقة وأرقام محددة تحقق خلال المشروع يساعد على حوكمة مشروع الحوكمة لقياس مستوى التقدم، مع مراعاة أن تكون المؤشرات قليلة جداً ومركزة على الأهم والأحوج.

وبشكل عام يمكن إعداد خطة بناء حوكمة الوقف على أربع مراحل رئيسة:

  • مرحلة التهيئة: وهدفها خلق شعور بأهمية الحوكمة لدى منسوبي الوقف قيادات وأفرادا.
  • مرحلة بناء الإطار العام: الاتفاق على الإطار العام للحوكمة.
  • مرحلة التنظيم: بناء لوائح الحوكمة، والنماذج والسياسات.
  • مرحلة التطبيق: موائمة تدريجية بين الواقع والمفترض، وبناء الأدوات وترسيخ الممارسات.

 

التنظيم:

تأتي أهمية التنظيم من كونه اللبنة الأساسية التي تبنى عليها كل مراحل بناء الحوكمة، لذا يجب العناية ببناء أنظمة الوقف ووثائقه الحاكمة بشكل دقيق وفقا لاحتياجات الوقف وتطلعات أصحاب المصلحة:

  • مراجعة وبناء الأنظمة واللوائح: ومن أبرز الوثائق التي يجب العناية بها خاصة للأوقاف الكبيرة:
    • وثيقة الوقف: تعتبر وثيقة الوقف هي الدستور الحاكم وصمام الأمان لحوكمة الوقف، لذا قد يحتاج الوقف إلى إجراء تعديلات في شروط وصيغة وثيقة الوقف تركز على ضبط الإطار العام لهيكل حوكمة الوقف.
    • لائحة الحوكمة: هي لائحة حاكمة تحدد مهام وصلاحيات الأطراف ذات العلاقة (الجمعية العامة، المجلس، اللجان، الرئيس التنفيذي).
    • مصفوفة الصلاحيات: مصفوفة تحدد بشكل تفصيلي حدود الصلاحيات المالية والإدارية والقانونية لأصحاب العلاقة.
    • لائحة التنظيم المالي: تعنى بالضبط المالي والمحاسبي للوقف.
  • إعداد السياسات: وهي مستوى تفصيلي لاحق لبناء الأنظمة، ومن أبرزها:
    • سياسات تعارض المصالح: السياسات الواجب الالتزام بها لدرء الأخطاء الناتجة عن تعارض المصالح حال وجوده، وأمثلة ضابطة لحالات تعارض المصالح.
    • سياسات الإبلاغ عن المخالفات والشكاوى: السياسات الضامنة لأصحاب المصلحة رفع بلاغات وشكاوى دون خوف من أي ضرر أو مشكلات.
    • سياسات مكافحة غسل الأموال: سياسات تضمن التعامل مع أموال الوقف وفقا لأنظمة مكافحة غسل الأموال.
    • سياسات التوثيق: السياسات الضامنة لحفظ وتنظيم الوثائق والمستندات.
    • سياسات الاستثمار: السياسات الواجب التقيد بها لإدارة استثمارات الوقف وتنمية أصوله.
    • سياسات المنح: السياسات التفصيلية الضابطة لاتخاذ قرارات المنح والاشتراطات والمعايير اللازم التقيد بها في عمليات المنح الذري أو الخيري.
  • بناء النماذج والإجراءات: لاتوجد إجراءات ونماذج يمكن تعميمها لكل الأوقاف، لذا يتوجب على الوقف بناء إجراءاته وتصميم نماذج عمله الخاصة به، مسترشدا بالنماذج الأولية التي تتيحها بيوت الخبره، ومن ذلك:
    • بناء أدلة الإجراءات: إجراءات الموارد البشرية، الإجراءات المحاسبية..
    • بناء النماذج: نموذج الإفصاح، نموذج بلاغ وشكوى، نموذج تقرير…
    • بناء السجلات: سجل الشكاوى، سجل القرارات. سجلات الموارد البشرية..

التوجيه:

يتوقف نجاح تطبيق الحوكمة على تبني قيادات الوقف لمبادئها والالتزام بسياساتها وقواعدها، ويتطلب تحسين مستوى الحوكمة في المنظمة مشاركة القيادات وفرق العمل وقناعتهم وتبنيهم للمشروع وصولاً إلى مجلس يمارس دوره الإشرافي ولاستشاري والرقابي بفاعلية. ويمكن أن نتناول وظيفة التوجيه من خلال الأبعاد التالية:

  • غرس ثقافة الحوكمة: لتحقيق نتيجة مثمرة حقيقية مستدامة لابد من التأهيل طويل الأمد لغرس قيم الحوكمة ومبادئها كجزء رئيس من ثقافة الوقف ومنسوبيه، ويتحقق ذلك من خلال ثلاثة أمور:
    • ترسيخ المعارف: التثقيف ونشر المعرفة.
    • تعزيز القناعات: تعزيز القناعة بأهمية الحوكمة.
    • بناء المهارات: التدريب على المهارات اللازمة.
  • التطبيق المتدرج: تطبيق الحوكمة في الوقف سهل ممتنع، لايمكن تحقيقه في يوم ليلة، وهو تغيير لابد أن يواجه بنوع من المقاومة، لذا لابد من مراعاة التدرج والعمل بحكمة وتأني وطول نفس، ومن ذلك:
    • التنفيذ التدريجي لهيكل الحوكمة: تطبيق هيكل الحوكمة الجديد سيواجه ممانعة من بعض الأفراد الذي تم استبعادهم أو تقليص صلاحياتهم، وليس من المصلحة الاستعجال بإجراء التعديلات، بل من الحكمة طبخ هذه التعديلات على نار هادئة.
    • وضع وإدارة خطة تدريجية مرنة لتطبيق مبادئ الحوكمة: من السهل معرفة ما يجب فعله، لكن من الصعب الالتزام به مباشرة، لذا من المهم وضع خطة مرنة متدرجة لتطبيق الأنظمة كي يهضمها الجميع خاصة الأفراد مقاومي التغيير.
    • الدعم الرسمي من المجلس والرئيس التنفيذي لممارسات وإجراءات التطبيق هو حجر الأساس في نجاح التغيير وإدارة دفته، وبدون دعم من الإدارة العليا لن يستطيع مستشار الحوكمة إحراز أي تقدم فعلي في تحسين مستوى الحوكمة.
    • التحفيز المستمر للممارسات المثلى في مجال الحوكمة مهم في دفع عجلة التغيير.
  • التحسين المستمر: الحوكمة ليست مشروعاً مؤقتاً بل هي ممارسة مؤسسية إصلاحية مستمرة:
    • تطور ممارسات الحوكمة ونماذجها أمر طبيعي وصحي، حيث لايوجد مقاس واحد للحوكمة يمكن تطبيقه على المنظمة دفعة واحدة، كما لايتوقع أن تلتزم المنظمة بأفضل الممارسات من أول يوم.
    • وثائق الحوكمة وثائق حية تحتاج إلى مراجعة وتحسين مستمر.
    • تختلف الوثائق من جهة دورية الإصدار.

الرقابة:

تعتمد الحوكمة بشكل كبير على التقييم والرقابة كأداة حازمة ومبدأ رئيس لضمان حماية الكيان من الفساد والإهمال:

  • القياس والتقييم: ما لا يقاس لايمكن إدارته، لذا لابد من قياس مستوى الحوكمة لدى الوقف دورياً، والعناية بالمقاييس الكمية، والتقييمات الوصفية.
  • المراجعة الداخلية: تعتبر المراجعة الداخلية الأداة الأهم في حوكمة الأوقاف والتي تعنى بتحسين الكفاءة التشغيلية للوقف وحمايته من أي ممارسات خاطئة تضر بمصالحه أو مصالح الأطراف ذات العلاقة، لذا يعتبر استقلال المراجع الداخلي أمر حاسم في نجاح تطبيق الحوكمة داخل الوقف.
  • المراجعة الخارجية: وجود مراجع خارجي يعنى بمراجعة القوائم المالية والتدقيق المحاسبي هو متطلب يضمن سلامة الممارسات الية للوقف ويحقق درجة عالية من الإفصاح المحاسبي.
آخر تحديث للصفحة:2023/12/19